صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ
التاسعة والعشرون : "صراط الذين أنعمت عليهم" .
صراط بدل من الأول بدل الشيء من الشيء ، كقولك : جاءني زيد أبوك . ومعناه : ادم هدايتنا ، فإن الإنسان قد يهدى الى الطريق ثم يقطع به . وقيل : هو صراط آخر ، ومعناه العلم بالله جل وعز والفهم عنه ، قاله جعفر بن محمد . ولغة القرآن الذين في الرفع والنصب والجر ، وهذيل تقول : اللذون في الرفع ، ومن العرب من يقول : اللذو ، ومنهم من يقول : الذي ، وسيأتي .
وفي عليهم عشر لغات ، قرىء بعامتها : عليهم بضم الهاء وإسكان الميم . وعليهم بكسر الهاء وإسكان الميم . : وعليهمي : بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة . و عليهمو بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة . و عليهمو بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم . و عليهم بضم الهاء والميم من غير زيادة واو . وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء . وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القرء : عليهمي بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم ، حكاها الأخفش البصري عن العرب . و عليهم بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء . و عليهم بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو . و عليهم بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم . وكلها صواب ، قاله ابن الأنباري .
الموفية الثلاثين : قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما صراط من أنعمت عليهم . واختلف الناس في المنعم عليهم ، فقال الجمهور من المفسرين : إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" . فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم ، وهو المطلوب في آية الحمد ، وجميع ما قيل الى هذا يرجع . فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان .
الحادية والثلاثون : في هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه ، طاعة كانت أو معصية ، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله ، فهو محتاج في صدورها عنه الى ربه ، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية الى الصراط المستقيم ، فلو ان الأمر اليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية ، ولا كرروا السؤال في كل صلاة ، وكذلك تضرعهم اليه في دفع المكروه ، وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا : "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" . فكما سألوه ان يهديهم سألوه ألا يضلهم ، وكذل يدعو فيقولون : "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا" الآية .
الثانية والعشرون : "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" .
اختلف في المغضوب عليهم و الضالين من هم ؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى :
وجاء ذلك مفسراً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم ، وقصة إسلامه .
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ، و الترمذي في جامعه . وشهد لهذا التفسير أيضاً قوله سبحانه في اليهود : "وباءوا بغضب من الله" وقال : "وغضب الله عليهم" وقال في النصارى : "قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" . وقيل : المغضوب عليهم المشركون . و الضالين المنافقون . وقيل : المغضوب عليهم هو من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة ، و الضالين عن بركة قراءتها . حكاه السلمي في حقائقه و الماوردي في تفسيره ، وليس بشيء . قال المارودي : وهذا وجه مردود ، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف ، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم . وقيل : المغضوب عليهم باتباع البدع ، و الضالين عن سنن الهدى .
قلت : وهذا حسن ، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن . و عليهم في موضع رفع ، لأن المعنى غضب عليهم . والغضب في اللغة الشدة . ورجل غضوب أي شديد الخلق . والغضوب : الحية الخبيثة لشدتها . والغضبة : الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض ، سميت بذلك لشدتها . ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة ، فهو صفة ذات ، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته ، أو نفس العقوبة ، ومنه الحديث :
الثالثة والعشرون : "ولا الضالين" الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق ، ومنه : ضل اللبن في الماء أي غاب . ومنه : " أإذا ضللنا في الأرض " أي غبنا بالموت وصرنا تراباً ، قال :
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
والضلضلة : حجر أملس يردده الماء في الوادي . وكذلك الغضبة : صخرة في الجبل مخالفة لونه ، قال :
أو غضبة في هضبة ما أمنعا
الرابعة والثلاثون : قرأ عمر بن الخطاب وابي بن كعب غير المغضوب عليهم وغير الضالين وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين ، فالخفض على البدل من الذين أو من الهاء والميم في عليهم ، أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف ، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام ، فالكلام بمنزلة قولك : إني لأمر بمثلك فأكرمه ، أو لأن غير تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما ، كما تقول : الحي غير الميت ، والساكن غير المتحرك ، والقائم غير القاعد ، قولان :الأول للفارسي ، والثاني للزمخشري . والنصب في الراء على وجهين : على الحال من الذين ، أو من الهاء والميم في عليهم ، كأنك قلت : أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم . أو على الاستثناء ، كأنك قلت : إلا المغضوب عليهم . ويجوز النصب بأعني ، وحكي عن الخليل .
الخامسة والثلاثون : لا في قوله " ولا الضالين " اختلف فيها ، فقيل هي زائدة ، قاله الطبري . ومنه قوله تعالى : "ما منعك أن لا تسجد" . وقيل : هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم ان الضالين معطوف على الذين ، حكاه مكي والمهدوي . وقال الكوفيون : لا بمعنى غير ، وهي قراءة عمر وأبي ، وقد تقدم .
السادسة والثلاثون : الأصل في الضالين : الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مدة الألف واللام المدغمة . وقرأ أيوب السختياني : ولا الضالين بهمزة غير ممدودة ، كأنه فر من التقاء الساكنين وهو لغة . حكى أبو يد قال : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ : "فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان" . فظننته ق لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة . قال او الفتح : وعلى هذه اللغة قول كثير :
إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت
نجز تفسير سورة الحمد ، ولله الحمد والمنة .